/ الفَائِدَةُ : (29) /

23/07/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / العلاقة بين العقل والوحي / إِنَّ أَصحاب العولمة والأَلسنيَّات والحداثويَّات يَفْصِلون بين العقل والدِّين ، والحال أَنَّ بيانات الوحي تُثبت عدم التَّمايُز والتَّغايُر بينهما من جهة المُحكمات ؛ وأَنَّ المُحكمات البديهيَّة في منطقة العقل هي نفسها مُحكمات القرآن الكريم ومُحكمات سُنَّة المعصوم عليه السلام . فانظر : أَوَّلاً : بيان قوله تعالى : [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ](1). ثَانِياً : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فِطْرَته ، ويُذَكِّرُوهُم مَنْسِيَّ نعمته، ويَحْتَجُّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول ... » (2) ثَالثاً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « هبط جبرائيل على آدم عليه السلام فقال : يا آدم إِنِّي أُمرت أَن أُخيِّرك واحدةً من ثلاثٍ فاخترها ودَع اثنتين ، فقال له آدم : يا جبرائيل ، وما الثَّلاث ؟ فقال : العقلُ والحياءُ والدِّينُ ، فقال آدم : إِنِّي قد اخترتُ العقل . فقال جبرئيل للحياء والدِّين : انصرفا ودعاه ، فقالا : يا جبرائيل ، إِنَّا أُمرنا أَن نكون مع العقل حيثُ كان ، قال : فشأنكما وعرج » (3) . ودلالته ـ كدلالة سابقيه ـ قد اِتَّضَحَتْ ؛ فإِنَّها دالَّة على أَنَّ الدِّين تابع للعقل ، لكن في دائرة البديهيَّات وما حام حولها ، والتي يكون الإِنسان فيها معصوماً ، لكنَّ العقل في جوانبه النَّظريَّة يتّبع الدِّين . وهذا ما يُشير إِلَيْه أَيْضاً بيان القاعدة الْمَعْرِفِيَّة : (أَنَّ الدِّين بجملته متطابق مع تمام فِطَر المخلوقات ، وكذا العكس) . نعم ، عندما يُنتقل من منطقة البديهيَّات إلى منطقة النَّظريَّات تضعف الآليَّات الإِدراكيَّة لدى العقل فيضطر إلى الاستعانة بالوحي . وعليه : فالتَّعبير بتبعيَّة الدِّين للعقل أَو العكس تعبير صوري وفيه شيء من المسامحة . وهذا البحث تنفتح منه أَبواباً أَمام البحوث القانونيَّة المطروحة على السَّاحة الدُّوليَّة. بل ، إِذا دَقَّقَ الباحث النَّظر فسيتبيَّن له : أَنَّ العقل مُنْدَكٌّ في الدِّين ؛ وأَنَّ المساحة الأَساسية في الدِّين هي الفِطْرَة العقليَّة ، وكذا العكس فلا تعدُّد . وبالجملة : أَنَّ الباري (تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ) جعل في العقل منطقة بديهيَّات ، وهي دين يداين الله به المخلوقات. ومنه يتَّضح : أَنَّ ما يذكره الأُصوليُّون في باب الحُجج ؛ وأَنَّها : تارة تكون للكتاب الكريم ، وأُخرى للسُّنَّة الشَّريفة ، وثالثة للعقل فهذه وإِن كانت بحسب الصُّورة مُتعدِّدة لكنَّها وبحسب الواقع شيء فارد ، وهي منطقة البديهيَّات العقليَّة ، فمدركات العقل في البديهيَّات أَحكام تكوينيَّة وأَحكام تشريعيَّة إِلهيَّة ، لكنَّه تارة تُدركها لاقطة العقل ، وأُخرى يبيُّنها لسان الوحي : أَمَّا عن طريق الكتاب الكريم أَو عن طريق السُّنَّة الشَّريفة ، فهذه قنوات ثلاث تكشف عن حقيقة واحدة ، وهي مُطلق الواقعيَّة . ومنه يتَّضح : حكم الملازمة العقليَّة القائلة : (كُلُّ ما حكم به العقل حكم به الشَّرع ، وكُلُّ ما حكم به الشَّرع حكم به العقل). و كذا يتَّضح أيضاً : حال الكتاب الكريم والعترة الطَّاهرة ، فإِنَّهما وإِن كانا في الطبقة النازلة والوجود الخارجي توجد بينهما اثنينية ، لكنَّهما إِذا تصاعدا وبلحاظ عالم النور هما شيء واحد ، نظير الشّكل الهندسي المخروطي كالمثلث ، فإِنَّ أَضلاعه وإِن كانت تفترق عند القاعدة لكنَّهما إِذا تصاعدت أَتَّحدت وصارت شيئاً واحداً ، وإِلَى كُلِّ هذا تُشير أَيْضاً بيانات الوحي الْمَعْرِفِيَّة الأُخْرَى ، منها : 1 ـ بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في خطبة الوداع : « إني تارك فيكم الثقلين إلا أن أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، و إنهما لن يفترقا حتى يردا عَلَيَّ الحوض ... »(4) 2 ـ بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الوارد في حق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « عَلِيٌّ مع الحق والحق مع عَلِيّ يدور حيثما دار» (5). 3 ـ بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَيْضاً : « عَلِيٌّ مع الحق والحق مع عَلِيّ ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (6) . 4 ـ بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَيْضاً : « عَلِيٌّ مع القرآن والقرآن مع عَلِيّ ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (7) . ودلالتها قد اِتَّضَحَتْ . بعد الْاِلْتِفَات : أَنَّ المراد من كلمة (حتَّى) الواردة في بيانات الوحي الْمَعْرِفِيَّة وأَبواب المعارف الإِلٰهيَّة ، منها ما تَقَدَّمَ ، ويضاف إِلَيْهَا : بيان قوله (تقدَّس ذكره) : [لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ](8) ليست الغاية والنهاية ، بل الوصول والاستمرار ، وهذا المعنىٰ يتمُّ أَيْضاً في بيان قوله (تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ) : [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ](9) وإِن فُسِّر اليقين بالموت . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الروم : 30 . (2)بحار الانوار ، 11 : 60 /ح70 . نهج البلاغة ، خ 1 : 45 ـ 46 . (3) أُصول الكافي ، 1/ كتاب العقل والجهل/10 / ح2. (4)بحار الانوار ، 22 : 311 ـ 312 / ح 14 . أمالي ابن الشيخ : 160 . (5) بحار الانوار ، 10 : 432 . (6)المصدر نفسه ، 29 : 343 /ح11 . (7)المصدر نفسه ، 48 : 35 . (8) الشعراء : 201. (9) الحجر: 99